في الكتاب الأخير للتنافسية الدولية الصادر عن المعهد الدولي للتنمية
الإدارية بسويسرا تم تصنيف حكومة الإمارات الحكومة الأكثر كفاءة عالميا.
ولا أذيع سرّا عندما أقول إن السبب الرئيسي لتفوق أدائنا الحكومي هو
أننا خلال سنوات طويلة لم نتعامل مع مؤسساتنا الحكومية على أنها جهات
حكومية بل على أنها مؤسسات خاصة تنافس القطاع الخاص وتعمل بنفس عقليته،
وتتبنى أفضل ممارساته، وتقاس أعمالها وخدماتها بنفس معاييره، بل ذهبنا
أبعد من ذلك وبدأنا نقيس سعادة المتعاملين معنا ونصنف مراكز خدماتنا وفق
أنظمة النجوم الفندقية المتعارف عليها عالميا.
وأثبتت التجربة نجاحها حيث ارتفع أداء مؤسساتنا وحققنا الكثير من
أهدافنا، ولعلنا نناقش ذلك بشيء من التوسع في القمة الحكومية القادمة.
ولكن شركات القطاع الخاص تمر بدورات في أعمالها، فهي تبدأ صغيرة ثم تنمو
وتنطلق وتكبر، ثم يأتي من ينافسها ويطلق منتجات أفضل من منتجاتها، فيتراجع
نموها ويتضاءل حجمها وتقل أهميتها ويضعف تأثيرها وقد تخرج من دائرة
المنافسة. وهذا ما تثبته الكثير من الدراسات.
فأكبر 500 شركة عالميا في عام 1955 لم يبق منها اليوم إلا 11% فقط، أما
الـ89% الأخرى فقد خرجت تماما من دورة الحياة والتأثير، بل الأكثر إدهاشا
في الموضوع أن متوسط أعمار الشركات في تلك القائمة سابقا كان 75 عاما، أما
اليوم وفي عالم سريع التغير والتفاعل، فإن متوسط أعمار الشركات في هذه
القائمة هو 15 عاما فقط، لأن المنافسة اشتدت، والمنتجات تغيرت، والمجتمعات
تطورت.
السؤال هو: هل يمكن تطبيق نفس التفكير على الحكومات؟ هل تشيخ الحكومات
والدول وتتأخر مع مرور الزمن؟ هل تبدأ قوية وتكبر ثم يأتي من يزيحها من
مراكزها فتتراجع ويقل نموها حتى تخرج من دائرة المنافسة؟ لا أعتقد أن أحدا
يمكن أن يختلف معي في الإجابة: نعم الحكومات تشيخ، وتشيخ معها دولها
وشعوبها أيضا، وتتراجع أهميتها، ويقل تأثيرها، فتصبح خارج دائرة المنافسة
والاعتبار، أو لنقل بعبارة أخرى خارج دائرة التاريخ.
ولكن لنكن إيجابيين -مع الاستمرار في تطبيق نظريتنا في التعامل مع
الحكومات كشركات- ولنركز على الـ11% من الشركات التي بقيت في القائمة،
ولنسأل أنفسنا كيف استطاعت البقاء في المنافسة؟ وما هو السر في طول شبابها
وتجدد طاقاتها؟ نسأل هذا السؤال حتى تبقى دولنا وشعوبنا أيضا ضمن سباق
التنافس الدولي، أو لنقل لتبقى في سباق الحضارة الإنسانية وضمن تاريخ الأمم
والشعوب التي تشكل العالم اليوم وتصوغ مستقبله.
لا أشك لحظة واحدة في قدرات عقولنا البشرية، فقد خلقنا الله لعمارة هذه
الأرض، نحن خلفاء الله في أرضه، وركب فينا سبحانه من الذكاء والقدرات
الذهنية والدوافع النفسية ما يجعلنا صالحين ومؤهلين لهذه المهمة العظيمة،
مهمة تحتاج عقولا متطورة ومتعلمة ومتجددة ومبدعة ومبتكرة.
لو لم يبتكر الإنسان الزراعة لما قامت حضارة، ولو لم يكتشف فوائد النار
لما تطورت تلك الحضارة، ولو لم يبتكر العجلة أو الكهرباء أو الإضاءة أو
المحركات أو غيرها لما تقدمت الإنسانية، ولو لم يبتكر الإنسان الإنترنت أو
الهاتف الذكي لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. سرّ تجدد الحياة وتطور
الحضارة وتقدم البشرية هو في كلمة واحدة: الابتكار!
وأستغرب من بعض الحكومات التي تعتقد أنها استثناء من هذه القاعدة.
الابتكار في الحكومات ليس ترفا فكريا، أو تحسينا إداريا، أو شيئا دعائيا،
الابتكار في الحكومات هو سر بقائها وتجددها، وهو سر نهضة شعوبها وتقدم
دولها.
إذا لم تبتكر الحكومات في طرائق التعليم مثلا، وتعد جيلا جديدا لزمان غير زمانها فحتما ستشيخ تلك الحكومات وحتما ستتأخر شعوبها.
في دراسة حكومية أميركية أجريت مؤخرا تبين أن 65% من الطلاب في مرحلة
رياض الأطفال سيعملون في وظائف غير موجودة حاليا بل سيتم استحداثها. وفي
دراسة لجامعة أكسفورد تبين أن 47% من الوظائف الحالية في جميع المجالات
الرئيسة ستختفي بسبب التقدم التقني والتكنولوجي، حيث ستحل الأجهزة محل
البشر وذلك خلال عقد من الآن فقط! والسؤال هو: كيف نجهز أجيالنا وأبناءنا
لذلك الوقت؟ وكيف نعد دولنا للمنافسة ليس الآن ولكن بعد عقد أو اثنين من
اليوم؟
الإجابة تكمن في الابتكار، وأن نعلم أجيالنا مهارات التفكير الإبداعي
ومهارات التحليل والابتكار ومهارات التواصل والتفاعل، وإلا فإننا نخاطر
كحكومات بأن تتأخر شعوبنا وتتأخر نهضتنا، أو بكلمة أخرى أن تشيخ دولنا.
إذا أردنا أن نكون حكومات مبتكرة فلا بد أن نفكر كشركات مبتكرة. وهنا
سؤال لا بد أن نطرحه على أنفسنا أيضا: ما هو الأهم للحكومات؟ أن تستمر في
الصرف بشكل مكثف على البنية التحتية من شوارع وطرقات وأنفاق وجسور وغيرها؟
أم أن تهتم بالصرف على البنية التحتية غير المرئية من تغيير في الأنظمة
وتطوير في التعليم والمهارات وبناء للتطبيقات وإجراء الأبحاث والدراسات
ودعم الابتكارات؟
تخبرنا الدراسات بأن أكبر 500 شركة عالمية قبل 40 عاما كانت أصولها
المرئية تمثل 80% من إجمالي الأصول، لكن اليوم أصبحت الأصول غير المرئية
كالأبحاث والدراسات والاختراعات تمثل أكثر من 80% من إجمالي الأصول في
قائمة الشركات الـ500 الأولى عالميا.
وأنا أقول: إذا أرادت الحكومات أن تبقى في دائرة المنافسة العالمية وأن
لا تشيخ فلا بد أيضا أن تحذو حذو تلك الشركات، وأن تبدأ بإعادة التفكير في
ميزانياتها وأين تصرف أموالها، فتقليد القطاع الخاص لا يكون فقط في الخدمات
بل حتى في طرائق صرف الميزانيات وأولوياتها.
وليس سرا أن حكومات أميركا وأوروبا تصرف مجتمعة سنويا أكثر من 250 مليار
دولار من الأموال الحكومية على الأبحاث والتطوير لتبقى في مواقع الريادة
العالمية، وليس خافيا على أحد أيضا أن سر تطور دول مثل سنغافورة وماليزيا
وكوريا الجنوبية خلال فترة قصيرة هو تأجيل الصرف على البنية التحتية
وتركيزها الكبير على تطوير التعليم وبناء مهارات ومعارف شعوبها، أي البنية
غير المرئية.
بل إن دولة مثل بريطانيا تصرف من ميزانيتها سنويا على البنية
التحتية غير المرئية كاستحداث الأنظمة والتدريب والأبحاث والتطوير أكثر مما
تصرفه على البنية التحتية المرئية من شوارع وأنفاق ومبان وغيرها (124
مليار جنيه مقارنة بـ93 مليار جنيه حسب أرقام 2009).
عندما تكون الحكومات مبتكرة فإن بيئة الدولة تكون كلها مبتكرة، وعندما
تشجع البيئة على الإبداع والابتكار تنطلق طاقات الناس نحو آفاق جديدة،
وتتفتق مواهبهم، ويصبح تحقيق أحلامهم وطموحاتهم ممكنا، وهذا أحد أسرار نجاح
الدول التي تشجع شعوبها على الابتكار.
وفي العالم الذي نعيش فيه اليوم والذي أصبحت فيه حركة العقول والمواهب
والمعلومات مفتوحة على نحو لم يحدث في تاريخ البشرية من قبل، أصبحت مدن
العالم المختلفة تتنافس لتوفير البيئة الأذكى والأكثر إبداعا لاستقطاب هذه
المواهب والاستفادة منها لبناء قوتها وتميزها وزيادة تنافسيتها.
الحكومات المبتكرة هي حكومات جاذبة للمواهب، فعالة في الأداء، متجددة في
الأنظمة والسياسات والخدمات. الحكومات المبتكرة هي القاطرة الأساسية لنهضة
الشعوب وتقدم الدول وارتفاع شأنها. الحكومات المبتكرة تطلق طاقات الشعوب،
وترفع من قيمة عقل الإنسان، وتحقق الحكمة الربانية في أن نكون خلفاء الله
في أرضه.
محمد بن راشد آل مكتوم: نائب رئيس الإمارات العربية المتحدة ورئيس وزرائها وحاكم دبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق